التحقيقات

تحقيق:يكشف رحمة الموت وقساوة التفاصيل ..”1″

الخرطوم :الحوادث

وفاة (1180) طفلاً حديثي ولادة بمستشفى (الدايات) خلال عامين من (45661) ولادة حية ووفاة (59) طفلاً في شهر واحد وفاة (214) طفلاً بالمستشفى السعودي..

مسؤول لجنة التقصي بالولاية: توجيه الموارد من قبل الوزارة ليس بالطريقة المثلى في خدمات صحة الأمومة والطفولة..

مدير الجودة: ارتفاع عدد الوفيات سببه التراخي وعدم الرقابة وتوقف برنامج تقصي الوفيات..

وفيات الأمهات وحديثي الولادة- الحلقة الثانية
يعاني السودانيون منذ أمد طويل مشكلات في الخدمات الصحية زادها عدم الاستقرار السياسي، وتجلت مشكلات الصحة في تدهور المستشفيات، وانعدام الأدوية وارتفاع أسعارها. إلا أن تجميد برنامج تقصي وفيات الأطفال حديثي الولادة والأمهات الأكثر تأثيراً، بعد تصاعد أرقام الوفيات بصورة مقلقة في ولاية الخرطوم، تجمَّد البرنامج بعد ثورة ديسمبر، أي منذ خمس سنوات، حيث أصابت الحياة ركود وعم التراخي مفاصل الدولة
تقصت عن وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة من داخل كبرى المستشفيات المتخصصة وخرجت بالتحقيق التالي .

البحث عن حضانة

لم يكن النداء المنشور على موقع التواصل الاجتماعي الشهير فيسبوك والذي حمل في سياقه المساعدة في إيجاد حضانة لحديث ولادة مجرَّد نداء عادي وإنما قضية تكشف عن تدهور الوضع الصحي في الخرطوم، النداء الذي نشره الأب بعبارات استغاثة كتب فيه: (يا جامع يا رقيب.. تجمع لينا بحضانة لفاطمة بتي.. في أى مستشفى.. الخ) لم يكن ذلك النداء هو الأول وبالتأكيد لم يكن الأخير إذ استمر الوضع كما هو عليه.

الصحفية إيمان الخلفية هي أم الطفلة المذكورة في النداء روت تفاصيل محزنة عن رحلة بحث لجهاز حضانة يمد مولدتها بأوكسجين الحياة.

بيد أن جميع المحاولات فشلت وفاضت روح صغيرتها بعد بحث دام أكثر من 12 ساعة، وتعود التفاصيل بحسب إيمان التي تحدثت لـ (التيار)، بأنها توجهت لمستشفى الجزيرة إسلانج بالريف الشمالي محلية كرري أم درمان.

وهناك أراد القدر بأن تضع مولودتها في غير موعدها (ولادة مبكِّرة)، وضعت بصورة طبيعية وانجبت بنت أبلغتها الطبيبة بأنها فارقت الحياة، سلمت الأم المكلومة أمرها للقدر، وقبل أن تغادر المستشفى حضرت إحدى السسترات وبدأت تواسي الأم وعندما لمست جسد الصغيرة الممد على السرير كشفت بأنها مازالت حيَّة وقلبها ينبض بالحياة، دب الأمل في قلب إيمان وتم الاتصال بالطبيبة، وبعبارات تعجيزية أكدت لهم أن المولودة لن تعيش وأن عاشت فهي تحتاج وضعها في حضانة.

ورغم ذلك تشبث الوالدان بخيط الأمل في إيجاد حضانة وتم التواصل مع إحدى المستشفيات الخاصة في ضاحية الثورة، وكشف المشفى الخاص عن تكلفة الحضانة ليوم واحد يفوق الـ (100) ألف جنيه. تغيَّر مسار البحث وتوجهوا لمستشفى حكومي ورفض بدوره إدخال الصغيرة بحجة أن الولادة لم تتم عندهم. طرقوا باباً أخر لمستشفى خاص في ذات المنطقة وتفاجأوا برقم تعجيزي، وأيضاً رفض مستشفى حكومي أخر استلام الطفلة لذات الحجة السابقة ثم توجهوا للمستشفى السويدي والأخير بسبب تعنت الإجراءات لم يتمكنوا من إنقاذ الطفلة التي فاضت روحها لباريها في صباح اليوم التالي عند الثالثة صباحاً، غادرت الحياة وتركت حسرة في قلب والديها.

تراخي

رحلة بحث لأكثر من أسبوع قضيناها بين وزارة الصحة ومستشفيات الولادة (أم درمان والمستشفى السعودي) من أجل تقصي حقيقة الوفيات للأطفال حديثي الولادة والأمهات.

سستر أم سلمة محمد خير مدير إدارة الجودة بالمستشفى السعودي وحوادث الشيخ فضل، كشفت عن ارتفاع نسبة الوفيات في الأطفال حديثي الولادة والأمهات وبحسب الإحصائية التي تحصلت عليها أن عدد الوفيات في حديثي الولادة بلغ (214) حالة وفاة في عام 2022م، مفصلة على حسب الشهور في العام، أعلى عدد في شهر ديسمبر (26) حالة وفاة من (152) من الدخولات للمستشفى. وعزت أم سلمة الأسباب للتراخي الذي حدث بعد 2018م.

وعدم الرقابة من قبل وزارة الصحة وتوقف برنامج تقصي الوفيات في الفئات المذكورة وأن التقصي أضحى أرقام تحتفظ بها دفاتر المستشفيات أي لم يتم رفعها للوزارة كما في السابق، إضافة للنقص الحاد في الإمكانيات التي تحد من حدوث الوفيات في الأطفال (الخديج) منها الحضانات ويبلغ عدد الحضانات في المستشفى السعودي (16) حضانة (7) تحت الخدمة و(4) منها تحتاج لصيانة و(5) جديدة في انتظار التشغيل.

وبينت مديرة الجودة عدم كفاية العدد نسبة لحجم التردد العالي على المستشفى، الذي يعاني من ضغط كبير في فترات دخول مستشفيات الولادة بالخرطوم في إضراب مثل مستشفى أم درمان للولادة (الدايات) و(أم بدة).

وإضافة لنقص حاد في كوادر التمريض، مبيِّنة أن معظم الوفيات في حديثي الولادة من ناقصي الوزن (الولادات المبكِّرة). وتصاعدت الأرقام في مستشفى أم درمان للولادة (الدايات) وبحسب الإحصائية التى تحصلت (التيار) على نسخة منها أن عدد الوفيات خلال 2021م كان (629) وفاة وفي عام 2022م بلغ (551) وفاة ليصبح العدد الكلي للأعوام المذكورة (1180) حالة وفاة من (45661) ولادة حية، وكشفت الإحصائية عن وفاة (59) خلال شهر وكما هو موضح في جدول احصاء عام (2021)م أن عدد الوفيات خلال فبراير (53) وفي مارس (53) وأبريل (39) ومايو (57) وأغسطس (67) وسبتمبر (47) وفي شهر أكتوبر(59) ونوفمبر (47) ولم يرد في الإحصائية شهري يناير وديسمبر.

دكتور عماد عبد المنعم الخير المدير الطبي العام مستشفى الولادة أم درمان (الدايات) اتفق مع دكتور رحمة في ارتفاع نسبة وفيات الأطفال، وأضاف: إذا تم إجراء دراسة لعدد الحضانات المتوفرة مع عدد الولادات نجد أقل من 5% من الاحتياج على حسب التعداد السكاني الذي يمثل فيه الأطفال من عمر يوم حتى خمس سنوات، والأمهات أكثر من 60% من المجتمع السوداني وأن نسبة كبار السكن ليست كبيرة، معنى أن الأطفال والأمهات يمثلون الشريحة الأكبر، ومع هذا إذا تم قياس المستشفيات التي تتوفر فيها حضانات على مستوى العاصمة والولايات تمثل أقل من 5% من الحاجة وهي نسبة ضيئلة، وكشف عماد عن عمل إجراء توسعة في قسم الحضانات بمستشفى الولادة أم درمان. في محاولة لتغطية العجز الموجود.

وعزا عبد المنعم مشكلة الحضانات إلى أن الأطفال من عمر يوم إلى خمس سنوات يتم علاجهم حسب القانون مجاناً، هذا الأمر مكلف جدًا مقارنة مع حجم الصرف الذي يقع على عاتق المستشفى وتساءل إذ كان قسم الحضانات بالمستشفى يضم (90)طفلاً أي مبلغ يتم دفعه للاصطاف العامل؟ ثم أردف قائلاً: مبالغ طائلة وهذا الأمر هو السبب في هروب المستشفيات من عمل حضانات في مستشفياتها، لأن وجود طفل في الحضانة تحسب تكلفته باليوم مقارنة مع الدخل الوارد من بقاء الطفل في الحضانة وأن الدولة لم تغط فارق الصرف الملياري على بقائه، وكل ما تفعله هو سن قانون لمجانية علاجه بدون تغطية التكاليف ولهذا السبب يتم التهرُّب من وجود الحضانات لأنها مكلفة وتحتاج لصرف.

وقال: لابد للدولة في الفترة المقبلة أن تضع الاهتمام الأكبر للأطفال حديثي الولادة بتحملها للمسؤولية في تغطية العجز المادي المذكور وأن أقل طفل يمكث في الحضانة شهر. وعلَّل عماد ارتفاع النسبة في (الخدج) يعود لتغيير نمط الحياة الذي كان يتسم بأنه صحي أكثر من الآن.

أرقام مخيفة

دكتور أحمد رحمة، رئيس لجنة التقصي بوزارة الصحة ولاية الخرطوم، والمدير العام للمستشفى (السعودي وحوادث الشيخ فضل) بأن التقصي ليس معناها تقصي فقط وهو في حد ذاته يعني عمل كنترول ورقابة كاملة على الوفيات الموجودة في الولاية.

وأن الإنسان بطبعه إذا ترك الحبل على القارب بالتأكيد سيحدث تراخي ومشاكل كثيرة في الإدارات والأطباء وبالتالي أن الأشياء التي يمكن أن تحل مع التراخي لا يمكن حلها، إضافة لتوجيه الموارد من قبل الوزارة ليس بالطريقة المثلى في خدمات صحة الأمومة والطفولة وهذه أدت لزيادة كبيرة جداً في عدد الوفيات التي لم نتسطع حصرها، لأن لجنة التقصي مبنية على وجود لجان تقصي بالمستشفيات وهي منوط بها ضبط وحصر الوفيات في المستشفيات.

وتضع لها الأسباب على هذا الأساس أصبح كثير من المستشفيات ذات الموارد المحدودة خاصة المستشفيات التي بها أقسام وليس مستشفيات تخصصية أضحى الصرف على قسم النساء والولادة متساوي مع الأقسام الأخرى التي لم تكن لديها مهام الطوارئ، وأن 90% من عمل النساء والولادة عبارة عن طوارئ، إذ لم يكن هنالك خدمات طوارئ كافية يحدث انفلات وزيادة كبيرة في وفيات الأمهات وهذا ما حدث في فترة الثورة وفترة الكورونا حدثت زيادة كبيرة وتوقفت اللجان نهائياً مع تغيُّر كبير في إدارات المستشفيات التي لم تهتم بحقيقة وفيات الأمهات مما فاقم من زيادة العدد بصورة كبيرة، إضافة لمشكلة تدني النظام الصحي وأصبحت المستشفيات الأقل إمكانية تحول للمستشفى التي لديها إمكانية وهذا أدى لتأخير المرضى وزيادة الوفيات.

ويرى رحمة أن وفيات الأطفال مرتبطة بـ (الخدج) أي الأطفال ناقصي الوزن وهم يحتاجون لحضانات غير متوفرة في المستشفيات رغم أن هناك جهود من قبل الوزارة في دخ حضانات بصورة كبيرة ولكن مازال المشوار طويل من بلوغ الكفاية وأن المستشفى السعودي وحده يحتاج لـ (25) حضانة لمواكبة الزيادة الكبيرة فيها. وبيَّن أحمد أن حديثي الولادة يعانون من صعوبة التنفس ونقص الجلكوز والكالسيوم، ولكن السبب الأساسي أنهم (خُدج) أي أعمارهم في بطون أمهاتهم أقل من (37) أسبوعاً وأن عدد الوفيات في الولاية يفوق الـ(1000)حالة وفاة.

يخطفهم الموت

قبل أن تكتمل الفرحة بقدومهم فالأقدار تنسج خيوطها دون رفق حول أعناقهم الغضة فهم يولدون عند خطوط مأساة لا ذنب لهم فيها،غير أنهم أتوا إلى الدنيا من قرى بعيدة غابت عنها الرعاية الصحية، أو فقر جثم على حياة ذويهم أو رحلة بحث عن جهاز (حضانة) في المستشفيات تمدهم بأمل الحياة أنهم يموتون عبر تلك المتاهات المتشابكة بقسوة.

من سحابة الأرقام السوداء في دفاتر التقصي لوفيات حديثي الولادة نعبر نحو منعطف أخر في ملف الرعاية الصحية حيث أمهات يغادرن الحياة بقساوة تفاصيل محزنة.

المصدر: التيار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى